قصة بوليسية (صاحب الغرفة العلوية)
:: الأدب و الشعر :: قصص و حكايات
صفحة 1 من اصل 1
قصة بوليسية (صاحب الغرفة العلوية)
«قبل عشر سنوات غادر الشاعر غرفته العلوية بعد أن أغلقها كعادته ثم لم يعد.{ ما ان أنهى حارس العمارة كلامه حتى عاود نش الذباب عن صوان اذنه مبدياً لا مبالاته.
بدا انها ليست المرة الأولى التي يحضر فيها هذه الشيبة القصير القامة الى قسم الشرطة، فلا ريب أن قدميه ساقتاه مراراً الى هذا المكان، فلا تلوح على محياه رهبة من أي نوع، ولا توترت نبرات صوته، فأدركت أن رؤيته لضباط تنوء أكتافهم بالنجوم واستقراره على كرسي معطوف في حجرة التحقيق باتا أمراً مألوفاً لديه. الاجابة نفسها وان في صيغ مختلفة تلقيتها من جيران الشاعر الذي هجر مسكنه واختفى في ظروف غامضة. لم يتقدم أحد من أقاربه بإبلاغ الشرطة للبحث عنه، لكن زوجتي المهووسة بقراءة الأشعار والأعمال الأدبية هي التي رجتني أن أقوم ببعض التحريات عنه.
أحمل رتبة نقيب وأحصّل رزقي من تعقب المجرمين الخطرين، لكنّ هذه المهمة الخاصة ليست كذلك، فهذا الشاعر التافه الذي لا يعرفه أحد لم يرتكب جرماً يذكر - لكي أطارده - وانما أنا أقوم بتتبعه ارضاء لفضول زوجتي الشخصي.
ينتابني احساس انها كانت يوماً حبيبته، فأشعاره التي تحفظها عن ظهر قلب تبدو كأنها مكتوبة لها... وأوصاف الشاعر في قصائده تكاد تنطبق عليها:
شعر أسود خشن في داخله غابات وبساتين، ووسائد مضمخة برائحة الياسمين، اذا غفوت فيه شفيت قلبك من كروب الدنيا وأبصرت في منامك رؤى الصالحين.
جبين يلمع كالذهب، وحاجبان رفيعان تختال فيهما عزة الملوك ورهافة أهل الطرب، وتحتهما عينا لبوءة اذا رغبت شع منهما ضوء كاللهب، وجفنان مثقلان بالرموش يومئان الى الفردوس ويبشران بأن الربيع اقترب.
فمها كالشفق الأحمر، كدفء الصباح، ونيل أعز الأمنيات، حتى الوردة تغار من نداوته ونومة ملمسه وتتمنى لو تملك قدراً يسيراً من نضارته وحلاوته. يحسب المرء للوهلة الأولى وكأن ذلك الشاعر - لعنه الله - يبالغ في أوصافه الشعرية وتشابيهه، ولكن حين أفكر بأن المقصودة هي زوجتي أدرك في صميم قلبي أنه لم يبالغ قط، وأتضايق لأنه كان يعرفها أفضل مني! سألت حارس العمارة وأصابعي تعبث بأطراف الأوراق الصفر المكرمشة المحشورة في ملف أخضر مغبر: - أليس شيئاً غريباً أن مالك العمارة لم يؤجر الغرفة العلوية طيلة هذه المدة؟
رمقني حارس العمارة بنظرة ارتياب متشككاً في نياتي:
- انه يتشاءم من فتحها.
- هل هو يخشى شياطين الشاعر التي كانت تلهمه أن تخرج من الغرفة وتهيم على وجهها في الدنيا؟
- لا... انه يخشى اذا فتح الغرفة أن تعود شياطين الشاعر للسكن فيها.
- ...!
- هذا ما حدث لشقيقه.
حدجت حارس العمارة بنظرة استنكار، ولكنه تابع من دون أن يأبه لعدم تصديقي كلامه:
- شقيقه الأكبر هو الآخر يملك عمارة سكنية في شارع الزبيري ولكنه طرد الشاعر الذي كان يسكن عنده ونسي باب الشقة مفتوحاً، فسكنتها العفاريت التي غزت بالتدريج الشقق الأخرى، فأصبحت عمارته كما تراها اليوم مهجورة لا يسكنها أحد. طلبت من حارس العمارة أن ينتظرني في المساء لكي يعطيني مفتاح الغرفة العلوية ثم صرفته. استخرجت أمراً من النيابة بتفتيش حجرة الشاعر، وفكرت أنني قد أجد أثراً ما يقودني الى تفاصيل أفضل عن حياته، مثلاً متعلقاته الشخصية كدليل الهاتف - ان كان دوّن معلومات على حواشيه - أو مفكرة جيب فيها عناوين أصدقائه، أو أي شيء آخر قد يفيدني في الاهتداء الى مكانه. بعد الغروب انحدرت الى شارع الزبيري سيراً مستمتعاً برذاذ المطر الخفيف والبرودة اللطيفة التي غلفت المدينة، وأخذت أفكر في الخرافة التي رواها حارس العمارة عن انتقام شياطين الشعراء من مضطهديهم. ورحت أنبش أحداث الماضي بوجل مفتشاً في ذاكرتي عن أي شاعر رمته أقداره التعسة في طريقي، ولكنني لحسن الحظ لم أعثر على أي واحد منهم.
انتبهت في لحظة تجلّ ان الشارع الذي أسلكه يحمل اسم الشاعر اليماني الذائع الصيت «محمد محمود الزبيري{ الذي تزعم النضال ضد الإمامة وبشر بالثورة والجمهورية ثم أردوه قتيلاً... استقبلني حارس العمارة حين وصلت مقطب الجبين، وأعطاني مفتاحاً صدئاً يميل لونه الى السواد فأخذته منه شاكراً، وصعدت الدرج وأنا أتلفت خوفاً من أن يراني أحد ما، لأنه وعلى رغم كوني ضابطاً يرتعد منه المواطنون فإن منظري كان مشبوهاً، ولأنني في قرارة نفسي كنت أشعر بالخجل مما أفعل. وقفت برهة أتأمل غرفة الشاعر العلوية من الخارج، وبعد قليل صعد حارس العمارة خلفي ووقف يراقبني بعيني قط عند رأس الدرج وهو يدمدم متعوذاً من الشياطين! أدرت أكرة الباب ببطء وكأنما أخشى أن تستيقظ الأشياء التي في انتظاري. دخلت بمفردي وأشعلت النور ورددت الباب خلفي. شممت رائحة غريبة ليست عطرية ولا نتنة ولكنها أليفة الى حد ما ومخلوطة برائحة غبار عتيق.
تحركت في أرجاء الغرفة الهادئة وأنا أحس للمرة الأولى في حياتي بثقل أنفاسي وكم هي مثيرة للازعاج.
كانت هناك أشياء كثيرة مهملة يغطيها الرمل تماماً... المنضدة، المكتبة، سرير النوم، خزانة الثياب، المعاطف المعلقة، منفضة سجائر مترعة بالأعقاب البالية، قناني عطور رخيصة فارغة، أمشاط متنوعة، زجاج منثور يتكسر عليه نور مصباح الغرفة الأصفر والمعتم بألوان تثير الأعصاب وتوهمك بتشكل وجوه معروفة تتبدل كل عشر ثوان... الشنفري، بابلو نيرودا، عمر الخيام، جون ملتون، أمل دنقل، رامبو، ناظم حكمت، هولدر لين، طاغور.
أشحت ببصري وأنا أشعر بالدوار غير مصدّق، ونظرت في ساعتي مخمناً كم من الوقت سأحتاج لأجد ما جئت للبحث عنه، واذا بي أسمع صوت دقات ساعة... وعندما تأملت المكان جيداً رأيت ساعة حائط فوق الباب تماماً لا ترى الا بصعوبة، كان الغبار يغطي سطحها، ولذا لم يكن ممكناً بأي حال من الأحوال رؤية عقاربها ومعرفة الزمن الذي تشير اليه. انتشلت نفسي بصعوبة من خصوصية المكان واستحواذه على الحواس، ورحت بهمة أقلب كتباً ودفاتر في المكتبة بحثاً عما يمكن أن يكون دفتر مذكرات خاصاً بصاحب الغرفة، ذلك الرجل الغريب الأطوار الذي اختفى قبل عشر سنوات وانقطعت أخباره. وبعد ساعتين من البحث المضني واستنشاق الغبار الضار بالرئتين أيقنت فشل مهمتي. وقبل أن أغادر الغرفة خطرت في بالي فكرة استحسنتها وقمت بتنفيذها على الفور: زحزحت خزانة الملابس قليلاً لأرى اذا كانت هناك أشياء ساقطة خلفها... وصدق حدسي! انحنيت على الأرض ومددت يدي ملتقطاً مظروفاً متسخاً تغطيه طبقات غليظة من خيوط العنكبوت وقد تهلل وجهي فرحاً. نفضته مرات عدة ومزقت طرفه العلوي بحذر، واستخرجت من باطنه ورقة مبقعة بالدم وتفوح منها رائحة مطهرات طبية، وفكرت في نفسي أنني قد عثرت أخيراً على آخر شيء أنجزه الشاعر قبيل اختفائه، وانها قد تحتوي على مفتاح للغز اختفائه المحير.
أفردت الورقة ورحت أقرأ سطورها: «أنا شاعر بالفطرة، ولكنني ولدت في عصر لم تعد فيه حاجة للشعراء، وكأن أفلاطون انتصر اخيراً، فنبذتنا الحضارة وطردنا رجال الأعمال من مدنهم الفاضلة! في هذه الحياة الجديدة هناك نوعان من الذكور: رجال الأعمال والذين ليسوا رجالاً! وأنا بطبيعة الحال أو بسبب الجينات التي أحملها أنتمي الى ذلك الصنف من الذكور الذين أفقدهم رجال الأعمال رجولتهم.
لماذا أعيش؟ فقط لان الآخرين يفعلون ذلك أيضاً. وهذا يعني أننا نحيا في طريقة آلية، ولو تنبّه الجميع الى سخف السبب الذي لأجله يحيون فمن المؤكد أن معظمهم سيضع حداً لحياته وباختياره في أجمل لحظات وجوده.
في كل صباح أستيقظ من النوم وأطرح على نفسي هذا السؤال فلا أصل الى نتيجة، ثم أفعل ما يفعله الآخرون: أتهيأ للخروج ثم أفتح الباب وأدلف الى العالم. وحين أرجع وأكتشف أنني لم أفعل شيئاً - باستثناء تسميم حياة الآخرين الذين هم بدورهم يسممون حياتي - أسأل بقرف ان كنت سأحيا للغد لأعاود الكرة فأقوم بفعل هذا «اللاشيء{؟ أليس غريباً أن يحيا الانسان لأجل لا شيء! عقلي لا يستطيع الامساك بأي فكرة، ولا يرتاح لما يقوله العقائديون أو المتفلسفون، ولذا أفكر أحياناً في نشر اعلان مدفوع الأجر في الصحيفة الرسمية طالباً مقابلة السيد جبريل شخصياً... وما يعنيني هو أن أدعوه لتناول فنجان شاي بالحليب وأتجاذب معه أطراف الحديث. أعرف انني اتسكع وأجوب عوالمي الداخلية بحثاً عن حياة لم يعشها أحد من قبل، وعن كلمة لم تنطق بها شفة، وعن حواس فائقة الحساسية تستطيع ادراك ملايين الاشياء الجديدة التي لم يعلم بوجودها أي كائن. هكذا أثرثر لأنني منبوذ... فلا أحد يحفل بأمري... ولا أحد يحبني أو حتى يكرهني، اللامبالاة كانت دائماً من نصيبي، ولذلك كان بقائي في هذا العالم أشبه بقمامة تم التخلص منها بصورة غير ضارة بالبيئة. أنا من ناحيتي لست راغباً في البقاء الالزامي داخل حياة محدودة لا أحد يحسدني عليها. انني الآن اعيش ايامي الاخيرة مضطراً، ولولا تلك القرصات الخبيثة المنبعثة من معدتي لما تناولت طعاماً على الاطلاق... ثم ما معنى ان تغذي جسداً لا تريده وأنت تنوء بحمله في كل مكان ولا تعرف طريقة للتخلص منه... ثم لماذا كان هذا الجسد؟ ولماذا كان عليّ أن أخدمه طوال عمري بدلاً من أن يخدمني هو؟ لقد سخرنا الحيوانات والتكنولوجيا وحتى عقولنا لخدمة اجسادنا، ولم نفكر يوماً في تسخير اجسادنا لخدمة ذواتنا... تلك الذوات التي يحاول الجسد طمس معالمها في داخلنا وتأكيد ان ليس يوجد الا الجسد ولا شيء غيره! ان هذا الجسد يرهقني ويقلقني أمره وتخيفني رغباته ولست أدري كيف أهادنه؟ ان هذا الجسد الذي يمثلني ويتصرف باسمي ويستمد سلطاته من كينونتي ليس الا شيئاً كغيره من الاشياء التي يمكن كيميائياً أو فيزيائياً، ان تتحول اشكالاً اخرى، اما أنا فلست قابلاً للتحول، أنا أبدي، أنا عصي على الفناء، ولكنني اذا كنت خالداً فهذا يعني انني لست موجوداً... أين أنا اذاً؟ ان لحظات السعادة النادرة التي تجود بها الحياة طوال عمر مهما امتد، لا تتناسب مع ضروب التعاسة المختلفة التي هي في مواجهتها ذلك العمر كله.
غواية الحياة البشرية المفتقرة الى المرح والخيال والاشبه بالبقاء في صندوق مقفل لم تعد تستهويني، ولذلك اخترت الانسحاب من هذا العالم، والا اترك خلفي أي أثر يدل الى تواجدي يوماً ما على ظهر كرتنا الارضية المأفونة، ولا حتى دقيقة واحدة. اتخذت قراراً بأن امحو نفسي، ان استرجعها حتى من ذاكرة الناس، فرحت اتعقب كل ما يخصني بالاتلاف.. صوري الفوتوغرافية لدى الاصدقاء، ملفاتي وأوراقي لدى شركة دفن الاحياء التي كنت موظفاً فيها، استمارات العضوية في الجمعيات الكثيرة المنتسب اليها، الوثائق الدراسية والشخصية التي تثبت هويتي، مخطوطاتي الشعرية وكراريس مسوداتي، وأخيراً دفتر يومياتي الذي كنت في السابق حريصاً جداً على حجبه عن نظرات المتطفلين. لم يبق سوى اسمي الذي لم استطع استرداده من تلافيف امخاخهم، ان اجعلهم ينسونه وكأن لم يكن. ولأنني مصمم بشدة على استعادة اسمي منهم واتلافه حتى ولو بعد مغادرتي هذا العالم الفظ، فقد أبقيت على غرفتي سليمة ولم احرقها، وسأترك خلفي هذه الدراسة في مظروف مغلق خلف الدولاب في انتظار ان يتسلمها في يوم ما قد يأتي قريباً وقد يأتي بعيداً شخص ما ليس إلا... بقايا اسمي.{
توقفت ساعة الحائط عن التكتكة، وعم الظلام الدامس الحجرة العلوية مجدداً، وسمع حارس العمارة المنتظر في الخارج صوت أكرة الباب وهي تغلق على نفسها بالمفتاح والى الابد.
بدا انها ليست المرة الأولى التي يحضر فيها هذه الشيبة القصير القامة الى قسم الشرطة، فلا ريب أن قدميه ساقتاه مراراً الى هذا المكان، فلا تلوح على محياه رهبة من أي نوع، ولا توترت نبرات صوته، فأدركت أن رؤيته لضباط تنوء أكتافهم بالنجوم واستقراره على كرسي معطوف في حجرة التحقيق باتا أمراً مألوفاً لديه. الاجابة نفسها وان في صيغ مختلفة تلقيتها من جيران الشاعر الذي هجر مسكنه واختفى في ظروف غامضة. لم يتقدم أحد من أقاربه بإبلاغ الشرطة للبحث عنه، لكن زوجتي المهووسة بقراءة الأشعار والأعمال الأدبية هي التي رجتني أن أقوم ببعض التحريات عنه.
أحمل رتبة نقيب وأحصّل رزقي من تعقب المجرمين الخطرين، لكنّ هذه المهمة الخاصة ليست كذلك، فهذا الشاعر التافه الذي لا يعرفه أحد لم يرتكب جرماً يذكر - لكي أطارده - وانما أنا أقوم بتتبعه ارضاء لفضول زوجتي الشخصي.
ينتابني احساس انها كانت يوماً حبيبته، فأشعاره التي تحفظها عن ظهر قلب تبدو كأنها مكتوبة لها... وأوصاف الشاعر في قصائده تكاد تنطبق عليها:
شعر أسود خشن في داخله غابات وبساتين، ووسائد مضمخة برائحة الياسمين، اذا غفوت فيه شفيت قلبك من كروب الدنيا وأبصرت في منامك رؤى الصالحين.
جبين يلمع كالذهب، وحاجبان رفيعان تختال فيهما عزة الملوك ورهافة أهل الطرب، وتحتهما عينا لبوءة اذا رغبت شع منهما ضوء كاللهب، وجفنان مثقلان بالرموش يومئان الى الفردوس ويبشران بأن الربيع اقترب.
فمها كالشفق الأحمر، كدفء الصباح، ونيل أعز الأمنيات، حتى الوردة تغار من نداوته ونومة ملمسه وتتمنى لو تملك قدراً يسيراً من نضارته وحلاوته. يحسب المرء للوهلة الأولى وكأن ذلك الشاعر - لعنه الله - يبالغ في أوصافه الشعرية وتشابيهه، ولكن حين أفكر بأن المقصودة هي زوجتي أدرك في صميم قلبي أنه لم يبالغ قط، وأتضايق لأنه كان يعرفها أفضل مني! سألت حارس العمارة وأصابعي تعبث بأطراف الأوراق الصفر المكرمشة المحشورة في ملف أخضر مغبر: - أليس شيئاً غريباً أن مالك العمارة لم يؤجر الغرفة العلوية طيلة هذه المدة؟
رمقني حارس العمارة بنظرة ارتياب متشككاً في نياتي:
- انه يتشاءم من فتحها.
- هل هو يخشى شياطين الشاعر التي كانت تلهمه أن تخرج من الغرفة وتهيم على وجهها في الدنيا؟
- لا... انه يخشى اذا فتح الغرفة أن تعود شياطين الشاعر للسكن فيها.
- ...!
- هذا ما حدث لشقيقه.
حدجت حارس العمارة بنظرة استنكار، ولكنه تابع من دون أن يأبه لعدم تصديقي كلامه:
- شقيقه الأكبر هو الآخر يملك عمارة سكنية في شارع الزبيري ولكنه طرد الشاعر الذي كان يسكن عنده ونسي باب الشقة مفتوحاً، فسكنتها العفاريت التي غزت بالتدريج الشقق الأخرى، فأصبحت عمارته كما تراها اليوم مهجورة لا يسكنها أحد. طلبت من حارس العمارة أن ينتظرني في المساء لكي يعطيني مفتاح الغرفة العلوية ثم صرفته. استخرجت أمراً من النيابة بتفتيش حجرة الشاعر، وفكرت أنني قد أجد أثراً ما يقودني الى تفاصيل أفضل عن حياته، مثلاً متعلقاته الشخصية كدليل الهاتف - ان كان دوّن معلومات على حواشيه - أو مفكرة جيب فيها عناوين أصدقائه، أو أي شيء آخر قد يفيدني في الاهتداء الى مكانه. بعد الغروب انحدرت الى شارع الزبيري سيراً مستمتعاً برذاذ المطر الخفيف والبرودة اللطيفة التي غلفت المدينة، وأخذت أفكر في الخرافة التي رواها حارس العمارة عن انتقام شياطين الشعراء من مضطهديهم. ورحت أنبش أحداث الماضي بوجل مفتشاً في ذاكرتي عن أي شاعر رمته أقداره التعسة في طريقي، ولكنني لحسن الحظ لم أعثر على أي واحد منهم.
انتبهت في لحظة تجلّ ان الشارع الذي أسلكه يحمل اسم الشاعر اليماني الذائع الصيت «محمد محمود الزبيري{ الذي تزعم النضال ضد الإمامة وبشر بالثورة والجمهورية ثم أردوه قتيلاً... استقبلني حارس العمارة حين وصلت مقطب الجبين، وأعطاني مفتاحاً صدئاً يميل لونه الى السواد فأخذته منه شاكراً، وصعدت الدرج وأنا أتلفت خوفاً من أن يراني أحد ما، لأنه وعلى رغم كوني ضابطاً يرتعد منه المواطنون فإن منظري كان مشبوهاً، ولأنني في قرارة نفسي كنت أشعر بالخجل مما أفعل. وقفت برهة أتأمل غرفة الشاعر العلوية من الخارج، وبعد قليل صعد حارس العمارة خلفي ووقف يراقبني بعيني قط عند رأس الدرج وهو يدمدم متعوذاً من الشياطين! أدرت أكرة الباب ببطء وكأنما أخشى أن تستيقظ الأشياء التي في انتظاري. دخلت بمفردي وأشعلت النور ورددت الباب خلفي. شممت رائحة غريبة ليست عطرية ولا نتنة ولكنها أليفة الى حد ما ومخلوطة برائحة غبار عتيق.
تحركت في أرجاء الغرفة الهادئة وأنا أحس للمرة الأولى في حياتي بثقل أنفاسي وكم هي مثيرة للازعاج.
كانت هناك أشياء كثيرة مهملة يغطيها الرمل تماماً... المنضدة، المكتبة، سرير النوم، خزانة الثياب، المعاطف المعلقة، منفضة سجائر مترعة بالأعقاب البالية، قناني عطور رخيصة فارغة، أمشاط متنوعة، زجاج منثور يتكسر عليه نور مصباح الغرفة الأصفر والمعتم بألوان تثير الأعصاب وتوهمك بتشكل وجوه معروفة تتبدل كل عشر ثوان... الشنفري، بابلو نيرودا، عمر الخيام، جون ملتون، أمل دنقل، رامبو، ناظم حكمت، هولدر لين، طاغور.
أشحت ببصري وأنا أشعر بالدوار غير مصدّق، ونظرت في ساعتي مخمناً كم من الوقت سأحتاج لأجد ما جئت للبحث عنه، واذا بي أسمع صوت دقات ساعة... وعندما تأملت المكان جيداً رأيت ساعة حائط فوق الباب تماماً لا ترى الا بصعوبة، كان الغبار يغطي سطحها، ولذا لم يكن ممكناً بأي حال من الأحوال رؤية عقاربها ومعرفة الزمن الذي تشير اليه. انتشلت نفسي بصعوبة من خصوصية المكان واستحواذه على الحواس، ورحت بهمة أقلب كتباً ودفاتر في المكتبة بحثاً عما يمكن أن يكون دفتر مذكرات خاصاً بصاحب الغرفة، ذلك الرجل الغريب الأطوار الذي اختفى قبل عشر سنوات وانقطعت أخباره. وبعد ساعتين من البحث المضني واستنشاق الغبار الضار بالرئتين أيقنت فشل مهمتي. وقبل أن أغادر الغرفة خطرت في بالي فكرة استحسنتها وقمت بتنفيذها على الفور: زحزحت خزانة الملابس قليلاً لأرى اذا كانت هناك أشياء ساقطة خلفها... وصدق حدسي! انحنيت على الأرض ومددت يدي ملتقطاً مظروفاً متسخاً تغطيه طبقات غليظة من خيوط العنكبوت وقد تهلل وجهي فرحاً. نفضته مرات عدة ومزقت طرفه العلوي بحذر، واستخرجت من باطنه ورقة مبقعة بالدم وتفوح منها رائحة مطهرات طبية، وفكرت في نفسي أنني قد عثرت أخيراً على آخر شيء أنجزه الشاعر قبيل اختفائه، وانها قد تحتوي على مفتاح للغز اختفائه المحير.
أفردت الورقة ورحت أقرأ سطورها: «أنا شاعر بالفطرة، ولكنني ولدت في عصر لم تعد فيه حاجة للشعراء، وكأن أفلاطون انتصر اخيراً، فنبذتنا الحضارة وطردنا رجال الأعمال من مدنهم الفاضلة! في هذه الحياة الجديدة هناك نوعان من الذكور: رجال الأعمال والذين ليسوا رجالاً! وأنا بطبيعة الحال أو بسبب الجينات التي أحملها أنتمي الى ذلك الصنف من الذكور الذين أفقدهم رجال الأعمال رجولتهم.
لماذا أعيش؟ فقط لان الآخرين يفعلون ذلك أيضاً. وهذا يعني أننا نحيا في طريقة آلية، ولو تنبّه الجميع الى سخف السبب الذي لأجله يحيون فمن المؤكد أن معظمهم سيضع حداً لحياته وباختياره في أجمل لحظات وجوده.
في كل صباح أستيقظ من النوم وأطرح على نفسي هذا السؤال فلا أصل الى نتيجة، ثم أفعل ما يفعله الآخرون: أتهيأ للخروج ثم أفتح الباب وأدلف الى العالم. وحين أرجع وأكتشف أنني لم أفعل شيئاً - باستثناء تسميم حياة الآخرين الذين هم بدورهم يسممون حياتي - أسأل بقرف ان كنت سأحيا للغد لأعاود الكرة فأقوم بفعل هذا «اللاشيء{؟ أليس غريباً أن يحيا الانسان لأجل لا شيء! عقلي لا يستطيع الامساك بأي فكرة، ولا يرتاح لما يقوله العقائديون أو المتفلسفون، ولذا أفكر أحياناً في نشر اعلان مدفوع الأجر في الصحيفة الرسمية طالباً مقابلة السيد جبريل شخصياً... وما يعنيني هو أن أدعوه لتناول فنجان شاي بالحليب وأتجاذب معه أطراف الحديث. أعرف انني اتسكع وأجوب عوالمي الداخلية بحثاً عن حياة لم يعشها أحد من قبل، وعن كلمة لم تنطق بها شفة، وعن حواس فائقة الحساسية تستطيع ادراك ملايين الاشياء الجديدة التي لم يعلم بوجودها أي كائن. هكذا أثرثر لأنني منبوذ... فلا أحد يحفل بأمري... ولا أحد يحبني أو حتى يكرهني، اللامبالاة كانت دائماً من نصيبي، ولذلك كان بقائي في هذا العالم أشبه بقمامة تم التخلص منها بصورة غير ضارة بالبيئة. أنا من ناحيتي لست راغباً في البقاء الالزامي داخل حياة محدودة لا أحد يحسدني عليها. انني الآن اعيش ايامي الاخيرة مضطراً، ولولا تلك القرصات الخبيثة المنبعثة من معدتي لما تناولت طعاماً على الاطلاق... ثم ما معنى ان تغذي جسداً لا تريده وأنت تنوء بحمله في كل مكان ولا تعرف طريقة للتخلص منه... ثم لماذا كان هذا الجسد؟ ولماذا كان عليّ أن أخدمه طوال عمري بدلاً من أن يخدمني هو؟ لقد سخرنا الحيوانات والتكنولوجيا وحتى عقولنا لخدمة اجسادنا، ولم نفكر يوماً في تسخير اجسادنا لخدمة ذواتنا... تلك الذوات التي يحاول الجسد طمس معالمها في داخلنا وتأكيد ان ليس يوجد الا الجسد ولا شيء غيره! ان هذا الجسد يرهقني ويقلقني أمره وتخيفني رغباته ولست أدري كيف أهادنه؟ ان هذا الجسد الذي يمثلني ويتصرف باسمي ويستمد سلطاته من كينونتي ليس الا شيئاً كغيره من الاشياء التي يمكن كيميائياً أو فيزيائياً، ان تتحول اشكالاً اخرى، اما أنا فلست قابلاً للتحول، أنا أبدي، أنا عصي على الفناء، ولكنني اذا كنت خالداً فهذا يعني انني لست موجوداً... أين أنا اذاً؟ ان لحظات السعادة النادرة التي تجود بها الحياة طوال عمر مهما امتد، لا تتناسب مع ضروب التعاسة المختلفة التي هي في مواجهتها ذلك العمر كله.
غواية الحياة البشرية المفتقرة الى المرح والخيال والاشبه بالبقاء في صندوق مقفل لم تعد تستهويني، ولذلك اخترت الانسحاب من هذا العالم، والا اترك خلفي أي أثر يدل الى تواجدي يوماً ما على ظهر كرتنا الارضية المأفونة، ولا حتى دقيقة واحدة. اتخذت قراراً بأن امحو نفسي، ان استرجعها حتى من ذاكرة الناس، فرحت اتعقب كل ما يخصني بالاتلاف.. صوري الفوتوغرافية لدى الاصدقاء، ملفاتي وأوراقي لدى شركة دفن الاحياء التي كنت موظفاً فيها، استمارات العضوية في الجمعيات الكثيرة المنتسب اليها، الوثائق الدراسية والشخصية التي تثبت هويتي، مخطوطاتي الشعرية وكراريس مسوداتي، وأخيراً دفتر يومياتي الذي كنت في السابق حريصاً جداً على حجبه عن نظرات المتطفلين. لم يبق سوى اسمي الذي لم استطع استرداده من تلافيف امخاخهم، ان اجعلهم ينسونه وكأن لم يكن. ولأنني مصمم بشدة على استعادة اسمي منهم واتلافه حتى ولو بعد مغادرتي هذا العالم الفظ، فقد أبقيت على غرفتي سليمة ولم احرقها، وسأترك خلفي هذه الدراسة في مظروف مغلق خلف الدولاب في انتظار ان يتسلمها في يوم ما قد يأتي قريباً وقد يأتي بعيداً شخص ما ليس إلا... بقايا اسمي.{
توقفت ساعة الحائط عن التكتكة، وعم الظلام الدامس الحجرة العلوية مجدداً، وسمع حارس العمارة المنتظر في الخارج صوت أكرة الباب وهي تغلق على نفسها بالمفتاح والى الابد.
:: الأدب و الشعر :: قصص و حكايات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى